وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب فقالت: واكرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي[5] من ذلك السم)).
فأوصى الناس فقال: ((الصلاة. الصلاة، وما ملكت أيمانكم))، كرر ذلك مرارًا. أخرجهما البخاري.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.
دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، وبين يديه ركوة[6] فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) أخرجه البخاري.
وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، كررها ثلاثًا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون. مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير.
مات من كان للأيتام أبًا، وللأرامل عونًا وسندًا، مات مهرَبُ الفقراء والمساكين، وملاذ المعوزين المحتاجين، مات الإمام المجاهد، مات نبي الأمة، وقدوة الخلق، مات خير البشر، وأحب الخلق إلى الله، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار، وتشنّفت بسماع جميل حديثه الأسماع والآذان.
قال أنس بن مالك: ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل نفاه.
[1] المِخضب - بالكسر -: شبه المِرْكَن، وهي إِجَّانَةٌ تغسل فيها الثياب. النهاية في غريب الحديث، مادة (خضب).
[2] أراد أنهم بطانته وموضع سرّه وأمانته، والذي يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجترّ يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته. وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. ويقال: عليه كرشٌ من الناس، أي: جماعة. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرش).
[3] أَسِيْف، أي: سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق. النهاية في غريب الحديث، مادة (أسف).
[4] الطَلّة: اللذيذة من الروائح. القاموس المحيط، مادة (طلل).
[5] الأبْهَر: عِرْق في الظهر، وهما أبهران. وقيل: هما الأكحلان اللذان في الذراعين. وقيل: هو عرق مستبطن القلب، فإذا انتقطع لم تبق معه حياة. وقيل: الأبهر عرق منشئوه من الرأس ويمتد إلى القدم وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى: النأمة، ومنه قولهم: أسكت الله نأمته، أي: أماته، ويمتد إلى الحلق فيسمى فيه الوريد، ويمتد إلى الصدر فيسمى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمى الوتين، والفؤاد معلق به، ويمتد إلى الفخذ فيسمى النَّسا ويمتد إلى الساق فيسمى الصافن. النهاية في غريب الحديث، مادة (أبهر).
[6] الرَّكْوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء، والجمع: رِكاء. النهاية في غريب الحديث، مادة (ركا). ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
أصيب الصحابة بالذهول لفقد نبيهم ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب، يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال يزعمون أنه مات.
وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح فدخل المسجد ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حِبَرة[1]، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبّله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها.
ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [عمران:144].
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وغسله العباس وعليَّ، والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية[2] من كرسف[3] ليس فيها قميص ولا عمامة أدرجوه فيها إدراجًا، فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة عشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان.
فمما قال حسان رضي الله عنه يبكي به رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بطيبةَ رَسْمٌ للرسول ومَعْهَدُ منير وقد تعفو الرسوم وتهمدُ
ولا تمتحي الآيات من دار حُرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضحُ آثار وباقي معالم وربعٌ له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نورٌ يستضاء ويوقد
معارف لم تُطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدّد
إلى آخر القصيدة...
وهكذا طويت أعظم صفحة في تأريخ البشرية جمعاء، مات القدوة الناصح، وخير البشر، مات أفضل الأنبياء، لتبقى حياته نبراسًا لأبناء الأمة من بعده، تنير لهم طريق السير إلى الله، عبادته وأخلاقه، توحيده وجهاده، تعامله وزهادته، أخذه وعطاؤه، بيعه وشراؤه.
إنها المصيبة التي ما مر على الأمة لها مثيل ولن يمر، فَلْيَتَعَزَّ أهل المصائب بها.
[1] حِبَرَة: بُرْدٌ يمانٍ، والجمع: حِبَرٌ وحبرات. النهاية في غريب الحديث، مادة (حبر).
[2] سحولية: يُروى بفتح السين وضمها، فالفتح منسوب إلى السَّحول، وهو القصّار؛ لأنه يَسْحَلُها، أي: يغسلها. أو إلى سَحُول وهي: قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سَحْل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضاً. النهاية في غريب الحديث، مادة (سحل).
[3] الكُرْسُف: القُطْن. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرسف). ... ...
المصدر:
http://www.alminbar.netخطبة الوداع
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطبة الرسول في حجة الوداع. 2- تقريرها لحقوق الإنسان. 3- مخالفة أحكام الجاهلية. 4- ذم الربا وبيان حرمته. 5- الوصية بالنساء. 6- مكر الكافرين بالمسلمين. 7- حرمة الاقتتال بين المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر ما لبس الحجاج ثياب الإحرام، وتجردوا من زينة الدنيا، فغدوا متساويين متآلفين يذكرون تجريد الموت لهم من ثيابهم مرة أخرى، إلا من مثل ثياب الإحرام، فاستعدوا لذلك بصالح الأعمال وكريم الفعال.
الله أكبر ما ارتفعت أصوات الحجيج بالتلبية، يعلنون بذلك استجابتهم لنداء ربهم واستعدادهم لتنفيذ أوامره وأوامر رسوله لأنهم جند الإسلام الميامين، وعباد الرحمن المطيعين.
الله أكبر ما طاف الطائفون حول البيت العتيق، تلهج ألسنتهم بالتسبيح والتمجيد والدعاء والاستغفار، يعلنون بطوافهم ارتباطهم الأبدي بهذا الدين. وأنه يدورون مع شرائعه حيث دارت، لا ينفكون عنها، ولا يبغون عنها حولاً.
الله أكبر ما قصد الحجاج أرض عرفات فاجتمعوا فيها، وذكرهم موقفهم هذا بموقف الحشر الأعظم فعاهدوا ربهم على إصلاح أنفسهم، وتغيير واقعهم، واستقامة سلوكهم.
الله أكبر ما رمى الحجاج الجمرات في أيام العيد، فكانت عهداً مع ربهم على رفض اغراءات الشيطان وتزيينه، وعدم العودة إلى الإصغاء لوسوسته وإضلاله.
الله أكبر لو علم المسلمون معنى العيد، وأنه احتفال بإتمام ركن من أركان الإسلام عظيم، لفرحوا بالطاعة، واستبشروا بالرحمة، وما جعلوه مناسبة للمعاصي والآثام والاختلاط وتبرج النساء فالفرحة للطائعين. أما العصاة، أما فاللائق بحالهم البكاء والحزن على ما فرطوا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر لو انتهز المسلمون فرحة العيد، فزادوا من قوة روابطهم بصلة الأرحام، وزيارة الأقارب والجيران والأصدقاء، وتفقد الأرامل والآيتام والضعفاء، لكان مجتمعهم كما وصف الرسول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[1].
الله أكبر لو جعل المسلمون العيد مناسبة كريمة لتصافي القلوب المتخاصمة، وغسل أدران الحقد والحسد والغل من نفوسهم المريضة، لصارت قلوبهم بيضاء نقية، ولعاشوا سعداء في الدنيا والآخرة. ألم يقل نبينا : ((دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم)) [2].
أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام، ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان,تحديداً في السنة العاشرة من الهجرة، حج نبينا الحبيب محمدحجة الوداع. والحقيقة أيها الأخوة أن الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب مسلم، مؤمن بالله تعالى. لماذا؟لأن له منة عظيمة على كل مسلم، وفضلاً كبيراً على كل مؤمن، إذ به أنقذنا الله تعالى من الكفر إلى الإيمان والإسلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته، وعرفنا تفصيل سائر شعائر الإسلام لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها