حرف القاف
قرآن
قال الله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " [ الإسراء ] ، والصحيح أن من ها هنا ، لبيان الجنس لا للتبعيض ، وقال تعالى " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور " [ يونس ] .
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للإستشفاء به ، وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان ، وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه ، لم يقاومه الداء أبداً .
وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال ، لصدعها ، أو على الأرض ، لقطعها ، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه ، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه ، وقد تقدم في أول الكلام على الطب بيان إرشاد القرآن العظيم إلى أصوله ومجامعه التي هي حفظ الصحة والحمية ، واستفراغ المؤذي، والإستدلال بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع .
وأما الأدوية القلبية ، فإنه يذكرها مفصلة ، ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها . قال " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " [ العنكبوت ] ، فمن لم يشفه القرآن ، فلا شفاه الله ، ومن لم يكفه ، فلا كفاه الله .
قثاء
في السنن من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل القثاء بالرطب ، ورواه الترمذي وغيره .
القثاء بارد رطب في الدرجة الثانية ، مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة ، بطيء الفساد فيها ، نافع من وجع المثانة ، ورائحته تنفع من الغشي ، وبزره يدر البول ، وورقه إذا اتخذ ضماداً ، نفع من عضة الكلب ، وهو بطيء الإنحدار عن المعدة ، وبرده مضر ببعضها ، فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه ويكسر برودته ورطوبته ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أكله بالرطب ، فإذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل عدله .
قسط وكست بمعنى واحد . وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري " .
وفي المسند من حديث أم قيس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بهذا العود الهندي ، فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب " .
القسط
نوعان إحداهما الأبيض الذي يقال له البحري . والآخر الهندي ، وهو أشدهما حراً ، والأبيض ألينهما ، ومنافعهما كثيرة جداً .
وهما حاران يابسان في الثالثة ، ينشفان البلغم ، قاطعان للزكام ، وإذا شربا ، نفعا من ضعف الكبد والمعدة ومن بردهما ، ومن حمى الدور والربع ، وقطعا وجع الجنب ، ونفعا من السموم ، وإذا طلي به الوجه معجوناً بالماء والعسل ، قلع الكلف ، وقال جالينوس ينفع من الكزاز ، ووجع الجبين ، ويقتل حب القرع .
وقد خفي على جهال الأطباء نفعه من وجع ذات الجنب ، فأنكروه ولو ظفر هذا الجاهل بهذا النقل عن جالينوس لنزله منزلة النص ، كيف وقد نص كثير من الأطباء المتقدمين على أن القسط يصلح للنوع البلغمي من ذات الجنب ، ذكره الخطابي عن محمد بن الجهم . وقد تقدم أن طب الأطباء بالنسبة إلى طب الأنبياء أقل من نسبة طب الطرقية والعجائز إلى طب الأطباء،وأن بين ما يلقى بالوحي، وبين ما يلقى بالتجربة ، والقياس من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق .
ولو أن هؤلاء الجهال وجدوا دواء منصوصاً عن بعض اليهود والنصارى والمشركين من الأطباء ، لتلقوه بالقبول والتسليم ، ولم يتوقفوا على تجربته .
نعم نحن لا ننكر أن للعادة تأثيراً في الإنتفاع بالدواء وعدمه ، فمن اعتاد دواء وغذاء ، كان أنفع له ، وأوفق ممن لم يعتده ، بل ربما لم ينتفع به من لم يعتده .
وكلام فضلاء الأطباء وإن كان مطلقاً ، فهو بحسب الأمزجة والأزمنة ، والأماكن والعوائد ، وإذا كان التقييد بذلك لا يقدح في كلامهم ومعارفهم ، فكيف يقدح في كلام الصادق المصدوق ، ولكن نفوس البشر مركبة على الجهل والظلم ، إلا من أيده الله بروح الإيمان، ونور بصيرته بنور الهدى .
قصب السكر
جاء في بعض ألفاظ السنة الصحيحة في الحوض " ماؤه أحلى من السكر " ، ولا أعرف السكر في الحديث إلا في هذا الموضع .
والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدمو الأطباء ، ولا كانوا يعرفونه ، ولا يصفونه في الأشربة ، وإنما يعرفون العسل ، ويدخلونه في الأدوية ، وقصب السكر حار رطب ينفع من السعال ، ويجلو الرطوبة والمثانة ، وقصبة الرئة ، وهو أشد تلييناً من السكر ، وفيه معونة على القئ ، ويدر البول ، ويزيد في الباه . قال عفان بن مسلم الصفار من مص قصب السكر بعد طعامه ، لم يزل يومه أجمع في سرور ، انتهى . وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شوي ، ويولد رياحاً دفعها بأن يقشر ، ويغسل بماء حار . والسكر حار رطب على الأصح ، وقيل بارد، وأجوده الأبيض الشفاف الطبرزد ، وعتيقه ألطف من جديده ، وإذا طبخ ونزعت رغوته ، سكن العطش والسعال ، وهو يضر المعدة التي تتولد فيها الصفراء لاستحالته إليها ، ودفع ضرره بماء الليمون أو النارنج ، أو الرمان اللفان .
وبعض الناس يفضله على العسل لقلة حرارته ولينه ، وهذا تحامل منه على العسل ، فإن منافع العسل أضعاف منافع السكر ، وقد جعله الله شفاء ودواء ، وإداماً وحلاوة ، وأين نفع السكر من منافع العسل من تقوية المعدة ، وتليين الطبع ، وإحداد البصر ، وجلاء ظلمته ، ودفع الخوانيق بالغرغرة به ، وإبرائه من الفالج واللقوة ، ومن جميع العلل الباردة التي تحدث في جميع البدن من الرطوبات ، فيجذبها من قعر البدن ، ومن جميع البدن ، وحفظ صحته وتسمينه وتسخينه ، والزيادة في الباه ، والتحليل والجلاء ، وفتح أفواه العروق ، وتنقية المعى ، وإحدار الدود ، ومنع التخم وغيره من العفن ، والأدم النافع ، وموافقة من غلب عليه البلغم والمشايخ وأهل الأمزجة الباردة ، وبالجملة فلا شئ أنفع منه للبدن ، وفي العلاج وعجز الأدوية ، وحفظ قواها ، وتقوية المعدة إلى أضعاف هذه المنافع ، فأين للسكر مثل هذه المنافع والخصائص أو قريب منها ؟ .
حرف الكاف
كتاب للحمى
قال المروزي بلغ أبا عبد الله أني حممت ، فكتب لي من الحمى رقعة فيها بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله ، وبالله ، محمد رسول الله ، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، وأرادوا به كيداً ، فجعلنهاهم الأخسرين ، اللهم رب جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك ، إله الحق آمين .
قال المروزي وقرأ على أبي عبد الله - وأنا أسمع - أبو المنذر عمرو بن مجمع ، حدثنا يونس بن حبان ، قال سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلق التعويذ ، فقال إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله فعلقه واستشف به ما استطعت . قلت أكتب هذه من حمى الربع باسم الله ، وبالله ، ومحمد رسول الله إلى آخره ؟ قال أي نعم .
وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها ، أنهم سهلوا في ذلك .
قال حرب ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل ، قال أحمد وكان ابن مسعود يكرهه كراهة شديدة جداً . وقال أحمد وقد سئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء ؟ قال أرجو أن لا يكون به بأس .
قال الخلال وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع ، وللحمى بعد وقوع البلاء .
كتاب لعسر الولادة
قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد قال رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض ، أو شئ نظيف ، يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ " [ الأحقاف ] ، " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " [ النازعات ] .
قال الخلال أنبانا أبو بكر المروزي ، أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال يا أبا عبد الله ! تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين ؟ فقال قل له يجيء بجام واسع ، وزعفران ، ورأيته يكتب لغير واحد ويذكر عن عكرمة ، عن ابن عباس قال مر عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها ، فقالت يا كلمة الله ! ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه ، فقال يا خالق النفس من النفس ، ويا مخلص النفس من النفس ، ويا مخرج النفس من النفس ، خلصها . قال فرمت بولدها ، فإذا هي قائمة تشمه . قال فإذا عسر على المرأة ولدها ، فاكتبه لها . وكل ما تقدم من الرقي ، فإن كتابته نافعة .
ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه ، وجعل ذلك الشفاء الذي جعل الله فيه .
كتاب آخر لذلك يكتب في إناء نظيف " إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت " [ الإنشقاق ، ] ، وتشرب منه الحامل ، ويرش على بطنها .
كتاب للرعاف
كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر " [ هود ] . وسمعته يقول كتبتها لغير واحد فبرأ ، فقال ولا يجوز كتابتها بدم الراعف ، كما يفعله الجهال ، فإن الدم نجس ، فقال يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى .
كتاب آخر له خرج موسى عليه السلام برداء ، فوجد شعيباً ، فشده بردائه " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " [ الرعد ] .
كتاب آخر للحزاز
يكتب عليه " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " [ البقرة ] بحول الله وقوته .
كتاب آخر له عند اصفرار الشمس يكتب عليه " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم " [ الحديد ] .
كتاب آخر للحمى المثلثة يكتب على ثلاث ورقات لطاف بسم الله فرت ، بسم الله مرت ، بسم الله قلت ، ويأخذ كل يوم ورقة ، ويجعلها في فمه ، ويبتلعها بماء .
كتاب آخر لعرق النسا
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم رب كل شئ ، ومليك كل شئ ، وخالق كل شئ ، أنت خلقتني ، وأنت خلقت النسا ، فلا تسلطه علي بأذى ، ولا تسلطني عليه بقطع ، واشفني شفاء لا يغادر سقماً ، لا شافي إلا أنت .
كتاب للعرق الضارب
روى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ، ومن الأوجاع كلها أن يقولوا " بسم الله الكبير ، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ، ومن شر حر النار " .
كتاب لوجع الضرس
يكتب على الخد الذي يلي الوجع بسم الله الرحمن الرحيم " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " [ النحل ] ، وإن شاء كتب " وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم " [ الأنعام ] .
كتاب للخراج
يكتب عليه " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " [ طه ] .
كمأة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " ، أخرجاه في الصحيحين .
قال ابن الأعرابي الكمأة جمع ، واحدة كمء ، وهذا خلاف قياس العربية ، فإن ما بينه وبين واحده التاء ، فالواحد منه التاء ، وإذا حذفت كان للجمع . وهل هو جمع ، أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين ، قالوا ولم يخرج عن هذا إلا حرفان كمأة وكمء ، وجباة وجبء ، وقال غير ابن الأعرابي بل هي على القياس الكمأة للواحد ، والكمء للكثير ، وقال غيرهما الكمأة تكون واحداً وجمعاً .
واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئاً على أكمؤ ، قال الشاعر
ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وهذا يدل على أن كمء مفرد ، وكمأة جمع .
والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع ، وسميت كمأة لاستتارها ، ومنه كمأ الشهادة إذا سترها وأخفاها ، والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها ، ولا ساق ، ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء ، وتنميه أمطار الربيع ، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسداً ، ولذلك يقال لها جدري الأرض ، تشبيهاً بالجدري في صورته ومادته ، لأن مادته رطوبة دموية ، فتندفع عند سن الترعرع في الغالب ، وفي ابتداء استيلاء الحرارة ، ونماء القوة .
وهي مما يوجد في الربيع ، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً ، وتسميها العرب نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته ، وتنفطر عنها الأرض ، وهي من أطعمة أهل البوادي ، وتكثر بأرض العرب ، وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء .
وهي أصناف منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الإختناق .
وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة ، رديئة للمعدة ، بطيئة الهضم ، وإذا أدمنت ، أورثت القولج والسكتة والفالج ، ووجع المعدة ، وعسر البول ، والرطبة أقل ضرراً من اليابسة ، ومن أكلها فليدفنها في الطين الرطب ، ويسلقها بالماء والملح والصعتر ، ويأكلها بالزيت والتوابل الحارة ، لأن جوهرها أرضي غليظ ، وغذاؤها رديء ، لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها ، والإكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرمد الحار ، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأن ماءها يجلو العين ، وممن ذكره المسيحي ، وصاحب القانون وغيرهما .
وقوله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن " فيه قولان
أحدهما أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط ، بل أشياء كثيرة من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفواً من غير صنعة ولا علاج ولا حرث ، فإن المن مصدر بمعنى المفعول ، أي ممنون به ، فكل ما رزقه الله العبد عفواً بغير كسب منه ولا علاج ، فهو من محض ، وإن كانت سائر نعمه مناً منه على عبده ، فخص منها ما لا كسب له فيه ، ولا صنع باسم المن ، فإنه من بلا واسطة العبد ، وجعل سبحانه قوتهم بالتيه الكمأة ، وهي تقوم مقام الخبز ، وجعل أدمهم السلوى ، وهو يقوم مقام اللحم ، وجعل حلواهم الطل الذي ينزل على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى ، فكمل عيشهم .
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل " فجعلها من جملته ، وفرداً من أفراده ، والترنجبين الذي يسقط على الأشجار نوع من المن ، ثم غلب استعمال المن عليه عرفاً حادثاً .
والقول الثاني أنه شبه الكمأة بالمن المنزل من السماء ، لأنه يجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بزر ولا سقي .
فإن قلت فإن كان هذا شأن الكمأة ، فما بال هذا الضرر فيها ، ومن أين أتاها ذلك ؟ فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شئ صنعه ، وأحسن كل شئ خلقه ، فهو عند مبدإ خلقه بريء من الآفات والعلل ، تام المنفعة لما هيئ وخلق له ، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة ، أو امتزاج واختلاط ، أو أسباب أخر تقتضي فساده ، فلو ترك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به ، لم يفسد .
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه ، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه ، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام ، والطواعين والقحوط ، والجدوب ، وسلب بركات الأرض ، وثمارها ، ونباتها ، وسلب منافعها ، أو نقصانها أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضاً ، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " [ الروم ] ، ونزل هذه الآية على أحوال العالم ، وطابق بين الواقع وبينها ، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان ، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة ، بعضها آخذ برقاب بعض ، وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً ، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ، وأهويتهم ومياههم ، وأبدانهم وخلقهم ، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم .
ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكثر مما هي اليوم ، كما كانت البركة فيها أعظم . وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها هذا كان ينبت أيام العدل . وهذه القصة ، ذكرها في مسنده ، على أثر حديث رواه .
وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ، ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم ، حكماً قسطاً ، وقضاء عدلاً ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله في الطاعون " إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل " .
وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام ، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام ، وفي نظيرها عظة وعبرة .
وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه ، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء ، والقحط والجدب ، وجعل ظلم المساكين ، والجنس في المكاييل والموازين ، وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا ، ولا يعطفون إن استعطفوا ، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم ، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها ، فتارة بقحط وجدب ، وتارة بعدو ، وتارة بولاة جائرين ، وتارة بأمراض عامة ، وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها ، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم ، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً ، لتحق عليهم الكلمة ، وليصير كل منهم إلى ما خلق له ، والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم ، فيشاهده ، وينظر مواقع عدل الله وحكمته ، وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة ، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون ، وإلى دار البوار صائرون ، والله بالغ أمره ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره ، وبالله التوفيق .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة وماؤها شفاء للعين فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن ماءها يخلط في الأدوية التي يعالج بها العين ، لا أنه يستعمل وحده ، ذكره أبو عبيد .
الثاني أنه يستعمل بحتاً بعد شيها ، واستقطار مائها ، لأن النار تلطفه وتنضجه ، وتذيب فضلاته ورطوبته المؤذية ، وتبقي المنافع.
الثالث أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به من المطر ، وهو أول قطر ينزل إلى الأرض ، فتكون الإضافة إضافة اقتران ، لا إضافة جزء ، ذكره ابن الجوزي ، وهو أبعد الوجوه وأضعفها .
وقيل إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين ، فماؤها مجرداً شفاء ، وإن كان لغير ذلك ، فمركب مع غيره .
وقال الغافقي ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به ، ويقوي أجفانها ، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل .
كباث
في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث ، فقال " عليكم بالأسود منه ، فإنه أطيبه " .
الكباث ، بفتح الكاف ، والباء الموحدة المخففة ، والثاء المثلثة - ثمر الأراك ، وهو بأرض الحجاز ، وطبعه حار يابس ، ومنافعه كمنافع الأراك يقوي المعدة ، ويجيد الهضم ، ويجلو البلغم ، وينفع من أوجاع الظهر ، وكثير من الأدواء . قال ابن جلجل إذا شرب طحينه ، أدر البول ، ونقى المثانة ، وقال ابن رضوان يقوي المعدة ، ويمسك الطبيعة .